فصل: تفسير الآيات رقم (17- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

انتصب ‏{‏وعد الله‏}‏ على المفعولية المطلقة‏.‏ وهذا من المفعول المطلق المؤكد لمعنى جملةٍ قبله هي بمعناه ويُسميه النحويون مصدراً مؤكداً لنفسه تسمية غريبة يريدون بنفسه معناه دون لفظه‏.‏ ومثله في «الكشاف» ومثلوه بنحو «لك عليَّ ألفٌ عرفاً» لأن عرفاً بمعنى اعترافاً، أكد مضمون جملة‏:‏ لك علي ألف، وكذلك ‏{‏وَعْدَ الله‏}‏ أكد مضمون جملة ‏{‏وهُمْ مِنْ بَعْدِ غلبهم سيغلبون في بِضع سنين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏

وإضافة الوعد إلى الله تلويح بأنه وعد محقق الإيفاء لأن وعد الصادق القادر الغني لا موجب لإخلافه‏.‏ وجملة ‏{‏لا يخلف الله وعده‏}‏ بيان للمقصود من جملة ‏{‏وَعْدَ الله‏}‏ فإنها دلت على أنه وعد محقَّق بطريق التلويح، فبيّن ذلك بالصريح بجملة ‏{‏لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ‏.‏‏}‏ ولكونها في موقع البيان فصلت ولم تعطف، وفائدة الإجمال ثم التفصيل تقرير الحكم لتأكيده، ولما في جملة ‏{‏لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ‏}‏ من إدخال الرَّوع على المشركين بهذا التأكيد‏.‏ وسماه وعداً نظراً لحال المؤمنين الذي هو أهم هنا‏.‏ وهو أيضاً وعيد للمشركين بخذلان أشياعهم ومن يفتخرون بمماثلة دِينهم‏.‏

وموقع الاستدراك في قوله ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ هو ما اقتضاه الإجمال‏.‏ وتفصيله من كون ذلك أمراً لا ارتياب فيه وأنه وعد الله الصادق الوعد القادر على نصر المغلوب فيجعله غالباً، فاستدرك بأن مراهنة المشركين على عدم وقوعه نشأت عن قصور عقولهم فأحالوا أن تكون للروم بعد ضعفهم دَولة على الفرس الذين قهروهم في زمن قصير هو بضع سنين ولم يعلموا أن ما قدره الله أعظم‏.‏

فالمراد ب ‏{‏أكثر الناس‏}‏ ابتداءً المشركون لأنهم سمعوا الوعد وراهنوا على عدم وقوعه‏.‏ ويشمل المرادُ أيضاً كلَّ من كان يَعُد انتصار الروم على الفرس في مثل هذه المدة مستحيلاً، من رجال الدولة ورجال الحرب من الفرس الذين كانوا مزدهين بانتصارهم، ومن أهل الأمم الأخرى، ومن الروم أنفسهم، فلذلك عبر عن هذه الجمهرة ب ‏{‏أكْثَر النَّاس‏}‏ بصيغة التفضيل‏.‏ والتعريف في ‏{‏النَّاس‏}‏ للاستغراق‏.‏

ومفعول ‏{‏يَعْلَمُون‏}‏ محذوف دل عليه قوله ‏{‏سيغلبون في بضع سنين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏ فالتقدير‏:‏ لا يعلمون هذا الغلب القريب العجيب‏.‏ ويجوز أن يكون المرادُ تنزيل الفعل منزلة اللازم بأن نزلوا منزلة من لا علم عندهم أصلاً لأنهم لما لم يصلوا إلى إدراك الأمور الدقيقة وفهم الدلائل القياسية كان ما عندهم من بعض العلم شبيهاً بالعَدَم إذ لم يبلغوا به الكمال الذي بلغه الراسخون أهل النظر، فيكون في ذلك مبالغة في تجهيلهم وهو مما يقتضيه المقام‏.‏

ولما كان في أسباب تكذيبهم الوعد بانتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين أنهم يعدون ذلك محالاً، وكان عدهم إياهم كذلك من التباس الاستبعاد العادي بالمُحال، مع الغفلة عن المقادير النادرة التي يقدرها الله تعالى ويقدر لها أسباباً ليست في الحسبان فتأتي على حسب ما جرى به قدره لا على حسب ما يقدره الناس، وكان من حق العاقل أن يفرض الاحتمالات كلَّها وينظر فيها بالسَبْر والتقييم، أنحى الله ذلك عليهم بأن أعقب إخباره عن انتفاء علمهم صدق وعد القرآن، بأن وصف حالة علمهم كلَّها بأن قُصارى تفكيرهم منحصر في ظواهر الحياة الدنيا غير المحتاجة إلى النظر العقلي وهي المحسوسات والمجريات والأمارات، ولا يعلمون بواطن الدلالات المحتاجة إلى إعمال الفكر والنظر‏.‏

والوجه أن تكون ‏{‏مِن‏}‏ في قوله ‏{‏من الحياة الدنيا‏}‏ تبعيضية، أي يعلمون ظواهر ما في الدنيا، أي ولا يعلمون دقائقها وهي العلوم الحقيقية وكلها حاصلة في الدنيا‏.‏ وبهذا الاعتبار كانت الدنيا مزرعة الآخرة‏.‏

والكلام يشعر بذم حالهم، ومحطُّ الذم هو جملة ‏{‏وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏‏.‏ فأما معرفة الحياة الدنيا فليست بمذمة لأن المؤمنين كانوا أيضاً يعلمون ظاهر الحياة الدنيا، وإنما المذموم أن المشركين يعلمون ما هو ظاهر من أمور الدنيا ولا يعلمون أن وراء عالم المادة عالماً آخر هو عالم الغيب‏.‏ وقد اقتُصر في تجهيلهم بعالم الغيب على تجهيلهم بوجود الحياة الآخرة اقتصاراً بديعاً حصل به التخلص من غرض الوعد بنصر الروم إلى غرض أهم وهو إثبات البعث مع أنه يستلزم إثبات عالم الغيب ويكون مثالاً لجهلهم بعالم الغيب وذَمّاً لجهلهم به بأنه أوقعهم في ورطة إهمال رجاء الآخرة وإهماللِ الاستعداد لما يقتضيه ذلك الرجاء، فذلك موقع قوله ‏{‏وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏؛ فجملة ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا‏}‏ بدل من جملة ‏{‏لا يعلمون‏}‏ بدل اشتمال باعتبار ما بعد الجملة من قوله ‏{‏وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏ لأن علمهم يشتمل على معنى نفي علم بمغيبات الآخرة وإن كانوا يعلمون ظواهر الحياة الدنيا‏.‏

وجملة ‏{‏وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏ يجوز أن تجعلها عطفاً على جملة ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا‏}‏ فحصل الإخبار عنهم بعلم أشياء وعدم العلم بأشياء، ولك أن تجعل جملة ‏{‏وهم عن الآخرة‏}‏ الخ في موقع الحال، والواو واو الحال‏.‏

وعُبر عن جهلهم الآخرة بالغَفلة كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة آخرة فكان جهلهم بذلك شبيهاً بالغفلة لأنه بحيث ينكشف لو اهتموا بالنظر فاستعير له ‏{‏غَافِلون استعارة تبعية‏.‏

وهُم‏}‏ الأولى في موضع مبتدأ و‏{‏هم الثانية ضمير فصل‏.‏ والجملة الاسمية دالة على تمكنهم من الغفلة عن الآخرة وثباتهم في تلك الغفلة، وضمير الفصل لإفادة الاختصاص بهم، أي هم الغافلون عن الآخرة دون المؤمنين‏.‏

ومن البديع الجمع بين لا يَعْلَمون‏}‏ و‏{‏يَعْلَمُون‏.‏‏}‏ وفيه الطباق من حيث ما دلّ عليه اللفظان لا من جهة متعلقهما‏.‏ وقريب منه قوله تعالى ‏{‏ولقَد عَلمُوا لِمن اشتَرَاه ما لَهُ في الآخِرَة من خلاق ولبِئْسَ ما شَرَوْا به أنفُسَهُم لَو كَانُوا يَعْلَمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وهُمْ عن الآخرةِ هم غَافِلون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7‏]‏ لأنهم نفوا الحياة الآخرة فسيق إليهم هذا الدليل على أنها من مقتضى الحكمة‏.‏

فضمير ‏{‏يتفكروا‏}‏ عائد إلى الغافلين عن الآخرة وفي مقدمتهم مشركو مكة‏.‏ والاستفهام تعجيبي من غفلتهم وعدم تفكرهم‏.‏ والتقدير‏:‏ هم غافلون وعجيب عدم تفكرهم‏.‏ ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدَّالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين‏:‏

أحدهما‏:‏ اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات، وذلك من أسباب إنكارهم البعث وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب‏.‏

وثانيهما‏:‏ تمردهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن شاهدوا معجزته فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين‏.‏

والتفكر‏:‏ إعمال الفكر، أي الخاطر العقلي للاستفادة منه، وهو التأمل في الدلالة العقلية‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتوي الأعْمَى والبَصِير أفَلا تَتَفَكرون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏50‏)‏‏.‏

والأنفس‏:‏ جمع نفْس‏.‏ والنفس يطلق على الذات كلها، ويطلق على باطن الإنسان، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏تعْلَم مَا فِي نَفْسِي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ كقول عمر يوم السقيفة‏:‏ «وكُنت زوّقت في نفسي مقالة» أي في عقلي وباطني‏.‏

وحرف ‏{‏في‏}‏ من قوله ‏{‏فِي أنْفُسهم‏}‏ يجوز أن يكون للظرفية الحقيقية الاعتبارية فيكون ظرفاً لمصدر ‏{‏يَتَفَكَرُّوا، أي تفكراً مستقراً في أنفسهم‏.‏ وموقع هذا الظرف مما قبله موقع معنى الصفة للتفكر‏.‏ وإذ قد كان التفكر إنما يكون في النفس فذكر في أنفسهم لتقوية تصوير التفكر وهو كالصفة الكاشفة لتقرر معنى التفكر عند السامع، كقوله ‏{‏ولاَ تخطّهُ بِيَمِينك‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏ وقوله ‏{‏ولاَ طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، وتكون جملة ‏{‏مَا خَلَقَ الله السَّمَاوات والأرْض‏}‏ الخ على هذا مُبينة لجملة ‏{‏يَتَفَكَرُّوا‏}‏ إذ مدلولها هو ما يتفكرون فيه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمْ يَتَفَكَّروا ما بِصَاحبهم من جنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 184‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية متعلقة بفعل ‏{‏يَتَفكروا‏}‏ تعلق المفعول بالفعل، أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم‏.‏ والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى ‏{‏وفي أنْفُسكم أفَلا تُبْصِرون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏؛ فإن حق النظر المؤدّي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 185‏]‏ أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض، وتكون جملة ‏{‏مَا خَلَق الله السماوَات والأرْض‏}‏ الخ على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله ‏{‏أنْفُسهم‏}‏ إذ الكلام على حذف مضاف، تقديره‏:‏ في دلالة أنفسهم، فإن دلالة ‏{‏أنفُسهم‏}‏ تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن ‏{‏أنفُسهم‏}‏ مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض، وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم‏.‏

وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل ‏{‏يَتَفَكَّروا‏}‏ عن العمل في مفعولين لوجود النفي بعده‏.‏

ومعنى ‏{‏خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏:‏ أن خلقهم ملابسٌ للحق‏.‏

والحق هنا هو ما يحق أن يكون حِكمة لِخلق السماوات والأرض وعلة له، وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق كما يقول الأب لابنه القائم ببره‏:‏ أنت ابني حقاً، ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالاً على معنى الكمال في نحو‏:‏ أنت الحبيب، لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته، وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابليته، ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواءٌ‏.‏ دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة، وأخبارُ الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها، وقياسُ ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها حاشا نوع الإنسان فإن الله فَطَره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحواللِ تجدُّدِ الأجيال في الكمال والارتقاء وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالَمِه كما قال ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ وذلك بما أودع فيه من العقل‏.‏ ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتاً مترامي الأطراف، كما قال البحتري‏:‏

ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً *** لدى الفضل حتى عُدّ ألف بواحد

فدلت التجربة في المشاهدة كما دلت الأخبار عن الماضي وقياس ما قبل التاريخ على ما بعده، كل ذلك دل على هذا المعنى، ولأجل هذا التفاوت كلف الإنسان خالقُه بقوانين ليبلغ مرتقى الكمال القابل له في زمانه، مع مراعاة ما يحيط به من أحوال زمانه، وليتجنب إفساد نفسه وإفساد بني نوعه، وقد كان ما أعطيه نوع الإنسان من شُعب العقل مخوِّلاً إياه أن يفعل على حسب إرادته وشهوته، وأن يتوخّى الصواب أو أن لا يتوخّاه، فلما كلفه خالقهُ باتباع قوانين شرائعه ارتكب واجتنب فالتحق تارة بمراقي كماله، وقصَّر تارة عنها قصوراً متفاوتاً، فكان من الحكمة أن لا يُهمَل مسترسلاً في خطوات القصور والفساد، وذلك إما بتسليط قوة مُلْجِئَة عليه تستأصل المفسد وتستبقي المصلح، وإما بإراضته على فعل الصلاح حتى يصير منساقاً إلى الصلاح باختياره المحمود، إلا أن حكمة أخرى ربانية اقتضت بقاء عمران العالم وعدمَ استئصاله، وبذلك تعطل استعمال القوة المستأصلة، فتعين استعمال إراضته على الصلاح، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثواباً للصالحين على قدر صلاحهم وعقاباً للمفسدين بمقدار عملهم، واقعاً ذلك كلُّه في عالم غير هذا العالم، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة، وتنبيهاً على الحكمة، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب، وكانَ من حق آثار هاته الحِكم أن لا يُحرم الصالح من ثوابه، وأن لا يفوتَ المفسد بمَا به ليظهر حق أهل الكمال ومَن دونهم من المراتب، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدوداً بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلاً معيناً، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال، وتميز أهل النقص من أهل الكمال‏.‏

فكان جَعْل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خُلقت ملابِسةً له، ولذلك نُبّه عليه بخصوصه اهتماماً بشأنه، وتنبيهاً على مكانه، وإظهاراً أنه المقصدُ بكيانه، فعطفه على الحق للاهتمام به، كما عطف ضده على الباطل، في قوله ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ فقال ‏{‏أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى‏.‏

وقد مضى في سورة الأنعام ‏(‏73‏)‏ قوله ‏{‏وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق‏}‏ الآية‏.‏ وفائدة ذكر السماوات هنا أنّ في أحوال السماوات من شمسها وكواكبها وملائكتها ما هو من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له، أما ما وراء ذلك من أحوالها التي لا نَعرف نسبة تعلقها بهذا العالم، فنَكِلُ أمره إلى الله ونقيسُ غائبه على الشاهد، فنُوقنُ بأنه ما خُلق إلا بالحق كذلك‏.‏ فشواهد حقيَّة البعث والجزاء بادية في دقائق خلق المخلوقات، ولذلك أعقبه بقوله وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏}‏، وهذا كقوله تعالى ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏‏.‏

والمسمَّى‏:‏ المقدَّر‏.‏ أطلقت التسمية على التقدير، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونُقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى‏}‏ في سورة الحج ‏(‏5‏)‏‏.‏ وعند قوله تعالى ‏{‏ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب‏}‏ في سورة العنكبوت ‏(‏53‏)‏‏.‏ وجملة وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏}‏ تذييل‏.‏

وتأكيده ب ‏{‏إن‏}‏ لتنزيل السامع منزلة من يشك في وجود من يجحد لقاء الله بعد هذا الدليل الذي مضى بَلْهَ أن يكون الكافرون به كثيراً‏.‏ والمراد بالكثير هنا‏:‏ مشركو أهل مكة وبقية مشركي العرب المنكرين للبعث ومن ماثلهم من الدهريين‏.‏ ولم يعبر هنا ب ‏{‏أكثر الناس‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 60‏]‏ لأن المثبتين للبعث كثيرون مثل أهل الكتاب والصابئة والمجوس والقبط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏أوْ لم يَتَفكروا في أنْفُسهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8‏]‏ وهو مثل الذي عطف هو عليه متصل بما يتضمنه قوله ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 6‏]‏ أن من أسباب عدم علمهم تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أنبأهم بالبعث، فلما سيق إليهم دليل حكمة البعث والجزاء بالحق أعقب بإنذارهم موعظة لهم بعواقب الأمم الذين كذبوا رسلهم لأن المقصود هو عاقبة تكذيبهم رسل الله وهو قوله ‏{‏وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم‏}‏ الآية‏.‏

والأمر بالسير في الأرض تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ سيروا في الأرْض ثم انظروا كيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبِين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏11‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق‏}‏ في سورة العنكبوت ‏(‏20‏)‏‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أوَلَم يسيروا‏}‏ تقريري‏.‏ وجاء التقرير على النفي للوجه الذي ذكرناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا أنه لا يكلمهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ وقوله ‏{‏ألم يأتكم رسل منكم‏}‏ في الأنعام ‏(‏130‏)‏، وقوله ‏{‏أليس في جهنم مثوىً للكافرين‏}‏ في آخر العنكبوت ‏(‏68‏)‏‏.‏

والأرض‏:‏ اسم للكرة التي عليها الناس‏.‏

والنظر‏:‏ هنا نظر العين لأن قريشاً كانوا يمرّون في أسفارهم إلى الشام على ديار ثمود وقوم لوط وفي أسفارهم إلى اليمن على ديار عاد‏.‏ وكيفية العاقبة هي حالة آخر أمرهم من خراب بلادهم وانقطاع أعقابهم فعاضد دلالة التفكر التي في قوله ‏{‏أولم يتفكروا في أنفسهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8‏]‏ الآية بدلالة الحس بقوله‏:‏ ‏{‏فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‏.‏ وكيف‏}‏ استفهام معلِّق فعل ‏{‏ينظروا‏}‏ عن مفعوله، فكأنه قيل‏:‏ فينظروا ثم استؤنف فقيل‏:‏ كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‏.‏

والعاقبة‏:‏ آخر الأمر من الخير والشرّ، بخلاف العُقبى فهي للخير خاصة إلا في مقام المشاكلة، وتقدم ذكر العاقبة في قوله ‏{‏والعَاقِبَةُ لِلمُتَّقين‏}‏ في الأعراف ‏(‏128‏)‏‏.‏ وقد جمع قوله ‏{‏فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‏}‏ وعيداً على تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وتجهيلاً لإحالتهم الممكنَ، حيث أيقنوا بأن الفرس لا يُغلَبون بعد انتصارهم‏.‏ فهذه آثار أمم عظيمة كانت سائدة على الأرض فزال ملكهم وخلت بلادهم من سبب تغلب أمم أخرى عليهم‏.‏

والمراد بالذين من قبلهم‏:‏ عاد وثمود وقوم لوط وأمثالهم الذين شاهد العرب آثارهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم كانوا من قبلهم في مثل حالتهم من الشرك وتكذيب الرسل المرسلين إليهم، كما دل عليه قوله عقبه ‏{‏كانوا أشد منهم قوة‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الارض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا يَظْلِمُونَ‏}‏

كل أولئك كانوا أشد قوة من قريش وأكثر تعميراً في الأرض، وكلهم جاءتهم رسل، وكلهم كانت عاقبتهم الاستئصال، كل هذه ما تُقرّ به قريش‏.‏

وجملة ‏{‏كانوا أشد منهم قوة‏}‏ بيان لجملة ‏{‏كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‏}‏‏.‏

والشدة‏:‏ صلابة جسم، وتستعار بكثرة لقوة صفة من الأوصاف في شيء تشبيهاً لكمال الوصف وتمامه بالصلابة في عسر التحول‏.‏

وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وأولوا بأس شديد‏}‏ في سورة النمل ‏(‏33‏)‏‏.‏

والقوة‏:‏ حالة بها يقاوم صاحبها ما يوجب انخرامه، فمن ذلك قوة البدن، وقوة الخشب، وتستعار القوة لما به تُدفع العادية وتستقيم الحالة؛ فهي مجموع صفات يكون بها بقاء الشيء على أكمل أحواله كما في قوله‏:‏ ‏{‏نحن أولوا قوة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 33‏]‏ فقوة الأمة مجموع ما به تدفع العوادي عن كِيانها وتستبقي صلاح أحوالها من عُدد حربيّة وأموال وأبناء وأزواج‏.‏ وحالة مشركي قريش لا تداني أحوال تلك الأمم في القوة، وناهيك بعاد فقد كانوا مضرب الأمثال في القوة في سائر أمورهم، والعرب تصف الشيء العظيم في جنسه بأنه عاديُّ نسبةً إلى عاد‏.‏

وعطف ‏{‏أثاروا‏}‏ على ‏{‏كانوا‏}‏ فهو فعل مشتق من الإثارة بكسر الهمزة، وهي تحريك أجزاء الشيء، فالإثارة‏:‏ رفع الشيء المستقر وقَلْبُه بعد استقراره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي يرسل الرياح فتُثير سحاباً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ أي‏:‏ تسوقه وتدفعه من مكان إلى مكان‏.‏ وأطلقت الإثارة هنا على قلب تراب الأرض بجعل ما كان باطناً ظاهراً وهو الحرث، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا ذلول تثير الأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏، وقال النابغة يصف بقر الوحش إذا حفرت التراب‏:‏

يُثرنَ الحصى حتى يباشرن بَرده *** إذا الشمس مجّت ريقها بالكلاكل

ويجوز أن يكون ‏{‏أثاروا‏}‏ هنا تمثيلاً لحال شدة تصرفهم في الأرض وتغلبهم على من سواهم بحال من يثير ساكناً ويهيجه، ومنه أطلقت الثورة على الخروج عن الجماعة‏.‏ وهذا الاحتمال أنسب بالمقصود الذي هو وصف الأمم بالقوة والمقدرة من احتمال أن تكون الإثارة بمعنى حرث الأرض لأنه يدخل في العمارة‏.‏ وضمير ‏{‏أثاروا‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏كانوا أشد‏}‏‏.‏

ومعنى عمارة الأرض‏:‏ جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع‏.‏ يقال‏:‏ ضيعة عامرة، أي‏:‏ معمورة بما تعمر به الضياع، ويقال في ضده‏:‏ ضيعة غامرة‏.‏ ولكون قريش لم تكن لهم إثارة في الأرض بكلا المعنيين إذ كانوا بِواد غير ذي زرع لم يقل في هذا الجانب‏:‏ أكثر مما أثاروها‏.‏

وضميرا جمع المذكر في قوله‏:‏ ‏{‏وعمروها أكثر مما عمروها‏}‏ راجع أولهما إلى ما رجع إليه ضمير ‏{‏أثاروا‏}‏ وثانيهما إلى ما رجع إليه ضمير يسيروا في الأرض‏.‏ ويعرف توزيع الضميرين بالقرينة مثل توزيع الإشارة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا من شِيعتِه وهذا من عدوِّه‏}‏ في سورة ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏ كالضميرين في قول عباس بن مرداس يذكر قتال هوازن يوم حُنين‏:‏

عُدنا ولولا نحن أحدقَ جمعُهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جمَّعوا

وتقدم تفصيله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏ في سورة يونس ‏(‏58‏)‏، أي عمر الذين من قبلهم الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء، فإن لقريش عمارة في الأرض من غرس قليل وبناء وتفجير ولكنه يتضاءل أمام عمارة الأمم السالفة من عاد وثمود‏.‏

وتفريع فما كان الله ليظلمهم‏}‏ على قوله ‏{‏وجاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ إيجاز حذف بديع، لأن مجيء الرسل بالبينات يقتضي تصديقاً وتكذيباً فلما فرع عليه أنهم ظلموا أنفسهم عُلم أنهم كذَّبوا الرسل وأن الله جازاهم على تكذيبهم رسله بأن عاقبهم عقاباً لو كان لغير جرم لشابه الظلم، فجعل من مجموع نفي ظلم الله إياهم ومن إثبات ظلمهم أنفسَهم معرفة أنهم كذَّبوا الرسل وعاندوهم وحلّ بهم ما هو معلوم من مشاهدة ديارهم وتناقل أخبارهم‏.‏

والاستدراك ناشئ على ما يقتضيه نفي ظلم الله إياهم من أنهم عوملوا معاملة سيئة لو لم يستحقوها لكانت معاملة ظلم‏.‏ وعبر عن ظلمهم أنفسهم بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ظلمهم وتكرره وأن الله أمهلهم فلم يقلعوا حتى أخذهم بما دلت عليه تلك العاقبة، والقرينة قوله ‏{‏كانوا‏}‏‏.‏

وتقديم ‏{‏أنفسهم‏}‏ وهو مفعول ‏{‏يظلمون‏}‏ على فعله للاهتمام بأنفسهم في تسليط ظلمهم عليها لأنه ظلم يتعجب منه، مع ما فيه من الرعاية على الفاصلة‏.‏ وليس تقديم المفعول هنا للحصر لأن الحصر حاصل من جملتي النفي والإثبات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن هذه العاقبة أعظم رتبة في السوء من عذاب الدنيا، فيجوز أن يكون هذا الكلام تذييلاً لحكاية ما حلّ بالأمم السالفة من قوله ‏{‏كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ ثم عاقبةُ كل من أساءوا السوأى مثلَهم، فيكون تعريضاً بالتهديد لمشركي العرب كقوله تعالى ‏{‏دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 10‏]‏، فالمراد ب ‏{‏الذين أساءوا‏}‏ كل مسيئ من جنس تلك الإساءة وهي الشرك‏.‏ ويجوز أن يكون إنذاراً لمشركي العرب المتحدث عنهم من قوله ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 6‏]‏ فيكونوا المراد ب ‏{‏الذين أساءوا‏}‏، ويكون إظهاراً في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لقصد الإيماء بالصِلة، أي أن سبب عاقبتهم السوأى هو إساءتهم، وأصل الكلام‏:‏ ثم كان عاقبتهم السوأى‏.‏ وهذا إنذار بعد الموعظة ونص بعد القياس، فإن الله وعظ المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعواقب الأمم التي كذبت رسلها ليكونوا على حذر من مثل تلك العاقبة بحكم قياس التمثيل، ثم أعقب تلك الموعظة بالنذارة بأنهم ستكون لهم مثل تلك العاقبة، وأوقع فعل ‏{‏كان‏}‏ الماضي في موقع المضارع للتنبيه على تحقيق وقوعه مثل ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ إتماماً للنذارة‏.‏

والعاقبة‏:‏ الحالة الأخيرة التي تعقب حالة قبلها‏.‏ وتقدمت في قوله‏:‏ ‏{‏ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏11‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والعاقبة للتقوى‏}‏ في سورة طه ‏(‏132‏)‏‏.‏ ‏{‏والذين أساءوا‏}‏ هم كفار قريش، والمراد ‏{‏بآيات الله‏}‏ القرآن ومعجزات الرسول‏.‏

والسوأى‏:‏ تأنيث الأسَوإ، أي الحالة الزائدة في الاتصاف بالسوء وهو أشد الشر، كما أن الحسنى مؤنث الأحسن في قوله ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وتعريف ‏{‏السوأى‏}‏ تعريف الجنس إذ ليس ثمة عاقبة معهودة‏.‏

ويحتمل أن يراد ب ‏{‏الذين أساءوا‏}‏ الأمم الذين أثاروا الأرض وعمروها فتكون من وضع الظاهر موضع المضمر توسلاً إلى الحكم عليهم بأنهم أساءوا واستحقوا السوأى وهي جهنم‏.‏ وفعل ‏{‏كان‏}‏ على ما هو عليه من التنبيه على تحقق الوقوع‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏عاقبةُ‏}‏ بالرفع على أصل الترتيب بين اسم ‏{‏كان وخبرها‏.‏ وقرأه البقية بالنصب على أنه خبر كان مُقدم على اسمها وهو استعمال كثير‏.‏ والفصل بين كان ومرفوعها بالخبر سوغ حذف تاء التأنيث من فعل كان‏.‏

وأن كذبوا‏}‏ تعليل لكون عاقبتهم السوأى بحذف اللام مع ‏{‏أنْ وآيات الله‏:‏ القرآن والمعجزات‏.‏

والباء في بها يستهزئون‏}‏ للتعدية، وتقديم المجرور للاهتمام بشأن الآيات، وللرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي، وهو شروع فيما أُقيمت عليه هذه السورة من بسط دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس بإيجادهم وإعدامهم وبإمدادهم وأطوار حياتهم، لإبطال أن يكون لشركائهم شيء من التصرف في ذلك‏.‏ فهي دلائل ساطعة على ثبوت الوحدانية التي عمُوا عنها‏.‏

وإذا كان نزول أول السورة على سبب ابتهاج المشركين لتغلب الفرس على الروم فقطع الله تطاولهم على المسلمين بأن أخبر أن عاقبة النصر للروم على الفرس نصراً باقياً، وكان مثار التنازع بين المشركين والمؤمنين ميل كل فريق إلى مقاربه في الدين جُعل ذلك الحدثُ مناسبة لإفاضة الاستدلال في هذه السورة على إبطال دين الشرك‏.‏

وقد فُصِّلت هذه الدلائل على أربعة استئنافات متماثلة الأسلوب، ابتُدئ كل واحد منها باسم الجلالة مُجْرى عليه أخبار عن حقائق لا قِبَل لهم بدحضها لأنهم لا يسعهم إلا الإقرار ببعضها أو العجز عن نقض دليلها‏.‏

فالاستئناف الأول المبدوء بقوله ‏{‏الله يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏، والثاني المبدوء بقوله ‏{‏الله الذي خلقكم ثم رزقكم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 40‏]‏، والثالث المبدوء بقوله ‏{‏الله الذي يرسل الرياح‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏، والرابع المبدوء بقوله‏:‏ ‏{‏الله الذي خلقكم من ضعف‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏الله يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ فاستدلال بما لا يسعهم إلا الاعتراف به وهو بدء الخلق إذ لا ينازعون في أن الله وحدَه هو خالق الخلق ولذلك قال الله تعالى ‏{‏أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏ الآية‏.‏ وأما قوله ‏{‏ثم يعيده‏}‏ فهو إدماج لأنه إذا سُلم له بدء الخلق كان تسليم إعادته أولى وأجدر‏.‏ وحسن موقع الاستئناف وروده بعد ذكر أمم غابرة وأمم حاضرة خلف بعضها بعضاً، وإذ كان ذلك مِثالاً لإعادة الأشخاص بعد فنائها وذُكر عاقبة مصير المكذبين للرسل في العاجلة، ناسب في مقام الاعتبار أن يقام لهم الاستدلال على إمكان البعث ليقع ذكر ما يعقبه من الجزاء موقع الإقناع لهم‏.‏

وتقديم اسم الجلالة على المسند الفعلي لمجرد التقوّي‏.‏ و‏{‏ثم‏}‏ هنا للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، وذلك أن شأن الإرجاع إلى الله أعظم من إعادة الخلق إذ هو المقصد من الإعادة ومن بدءْ الخلق‏.‏ فالخطاب في ‏{‏ترجعون‏}‏ للمشركين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ترجعون‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بياء الغيبة على طريقة ما قبله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ثم إليه ترجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 11‏]‏ تبييناً لحال المشركين في وقت ذلك الإرجاع كأنه قيل‏:‏ ثم إليه ترجعون ويومئذ يُبلس المجرمون‏.‏ وله مزيد اتصال بجملة ‏{‏ثم كان عاقبة الذين أساءوا السُّوأى‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 10‏]‏، وكان مقتضى الظاهر أن يقال ويومئذ يُبلس المجرمون أو يومئذ تُبلسون، أي ويوم ترجعون إليه يبلس المجرمون، فعدل عن تقدير الجملة المضاف إليها ‏{‏يوم التي يدل عليها إليه ترجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 11‏]‏ بذكر جملة أخرى هي في معناها لتزيد الإرجاع بياناً أنه إرجاع الناس إليه يوم تقوم الساعة، فهو إطناب لأجل البيان وزيادة التهويل لما يقتضيه إسناد القيام إلى الساعة من المباغتة والرعب‏.‏ ويدل لهذا القصد تكرير هذا الظرف في الآية بعدها بهذا الإطناب‏.‏ وشاع إطلاق ‏{‏الساعة على وقت الحشر والحساب‏.‏ وأصل الساعة‏:‏ المقدار من الزمن، ويتعين تحديده بالإضافة أو التعريف‏.‏

والإبلاس‏:‏ سكون بحَيْرة‏.‏ يقال‏:‏ أبلس، إذا لم يجد مخرجاً من شدة هو فيها‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏إذا هم فيه مبلسون‏}‏ في سورة المؤمنين ‏(‏77‏)‏‏.‏

والمجرمون‏:‏ المشركون، وهم الذين أجريت عليهم ضمائر الغيبة وضمائر الخطاب بقرينة قوله ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء‏}‏‏.‏

والإظهار في مقام الإضمار لإجراء وصف الإجرام عليهم وكان مقتضى الظاهر أنه يقال‏:‏ تبلسون، بالخطاب أو بياء الغيبة‏.‏ ووصفوا بالإجرام لتحقير دين الشرك وأنه مشتمل على إجرام كبير‏.‏ وقد ذكر أحد أسباب الإبلاس وأعظمها حينئذ وهو أنهم لم يجدوا شفعاء من آلهتهم التي أشركوا بها وكانوا يحسبونها شفعاء عند الله، فلما نظروا وقلبوا النظر فلم يجدوا شفعاء خابوا وخسئوا وأبلسوا، ولهم أسباب خيبة أخرى لم يتعلق الغرض بذكرها‏.‏ وأما ما ينالهم من العذاب فذلك حالة يأس لا حالة إبلاس‏.‏ و‏{‏مِن تبعيضية، وليس الكلام من قبيل التجريد‏.‏

ونفيُ فعل يكن‏}‏ ب ‏{‏لم‏}‏ التي تخلص المضارع للمضي للإشارة إلى تحقيق حصول هذا النفي مثل قوله ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ومقابلة ضمير الجمع بصيغة جمع الشركاء من باب التوزيع، أي لم يكن لأحد من المجرمين أحد شفيع فضلاً عن عدة شفعاء‏.‏

وكذلك قوله ‏{‏وكانوا بشركائهم كافرين‏}‏ لأن المراد أنهم يكفرون بهم يوم تقوم الساعة كقوله تعالى ‏{‏ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وكتب في المصحف ‏{‏شُفَعَؤُاْ‏}‏ بواو بعد العين وألف بعد الواو، أرادوا بالجمع بين الواو والألف أن ينبهوا على أن الهمزة مضمومة ليعلم أن ‏{‏شفعاء اسمُ ‏(‏كان‏)‏ وأن ليس اسمها قوله من شركائهم‏}‏ بتوهم أن ‏{‏مِن اسم بمعنى بعض، أو أنها مزيدة في النفي، فأثبتوا الواو تحقيقاً لضم الهمزة وأثبتوا الألف لأن الألف صورة للهمزة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

أعيد ‏{‏ويوم تقوم الساعة‏}‏ لزيادة التهويل الذي تقدم بيانه آنفاً‏.‏ وكرر ‏{‏يومئذ لتأكيد حقيقة الظرفية‏.‏ ولما ذُكر إبلاس المشركين المشعر بتوقعهم السوء والعذاب أعقب بتفصيل أحوال الناس يومئذ مع بيان مغبة إبلاس الفريق الكافرين‏.‏

والضمير في ‏{‏يتفرقون‏}‏ عائد إلى معلوم من المقام دل عليه ذكر المجرمين فعلم أن فريقاً آخر ضدهم لأن ذكر إبلاس المجرمين يومئذ يفهم أن غيرهم ليسوا كذلك على وجه الإجمال‏.‏

والتفرق‏:‏ انقسام الجمع وتشتت أجزاء الكل‏.‏ وقد كني به هنا عن التباعد لأن التفرق يلازمه التباعد عرفاً‏.‏ وقد فُصل التفرق هنا بقوله ‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ إلى آخره‏.‏

والروضة‏:‏ كل أرض ذات أشجار وماء وأزهار في البادية أو في الجنان‏.‏ ومن أمثال العرب «أحسن من بيضة في روضة» يريدون بيضة النعامة‏.‏ وقد جمع محاسن الروضة قول الأعشى‏:‏

ما روضة من رياض الحَزن معشبة *** خضراءُ جاد عليها مُسبللٍ هَطِل

يُضاحك الشمسَ منها كوكب شَرِق *** مُؤَزَّر بعميم النبت مكْتَهِلُ

و ‏{‏يحبرون‏}‏‏:‏ يُسَرُّون من الحُبور، وهو السرور الشديد‏.‏ يقال‏:‏ حبره، إذا سره سروراً تهلل له وجهه وظهر فيه أثره‏.‏

‏{‏ومحضرون‏}‏ يجوز أن يكون من الإحضار، أي‏:‏ جعل الشيء حاضراً، أي‏:‏ لا يغيبون عنه، أي‏:‏ لا يخرجون منه، وهو يفيد التأييد بطريق الكناية لأنه لما ذكر بعد قوله ‏{‏في العَذاب‏}‏ ناسب أن لا يكون المقصود من وصفهم المحضرين أنهم كائنون في العذاب لئلا يكون مجرد تأكيد بمدلول في الظرفية فإن التأسيس أوقع من التأكيد، ويجوز أن يكون محضَرون بمعنى مأتيٌّ بهم إلى العذاب فقد كثر في القرآن استعمال محضر ونحوه بمعنى معاقب، قال تعالى ‏{‏ولقد علمت الجِنّة إنهم لمُحضرون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏، واسم الإشارة تنبيه على أنهم أحرياء بتلك العقوبة لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة كقوله ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وكتب في رسم المصحف ‏{‏ولقائي‏}‏ بهمزة على ياء تحتية للتنبيه على أن الهمزة مكسورة وذلك من الرسم التوقيفي، ومقتضى القياس أن تكتب الهمزة في السطر بعد الألف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ‏(‏17‏)‏ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

الفاء تقتضي اتصال ما بعدها بما قبلها وهي فاء فصيحة، أو عطف تفريع على ما قبلها وقد كان أول الكلام قوله ‏{‏أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8‏]‏، والضمير عائد إلى أكثر الناس في قوله ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 6‏]‏ والمراد بهم الكفار فالتفريع أو الإفصاح ناشئ عن ذلك فيكون المقصود من ‏{‏سبحان الله‏}‏ إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه من العجز عن إحياء الناس بعد موتهم وإنشاء ثناء عليه‏.‏

والخطاب في ‏{‏تُمْسُونَ‏}‏ و‏{‏تُصْبِحُونَ‏}‏ تابع للخطاب الذي قبله في قوله ‏{‏ثُمَّ إليهِ تُرْجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 11‏]‏، وهو موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات من ضمائر الغيبة المبتدئة من قوله ‏{‏أو لم يتفكروا في أنفسهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8‏]‏ إلى آخرها كما علمت آنفاً‏.‏ وهذا هو الأنسب باستعمال مصدر ‏(‏سبحان‏)‏ في مواقع استعماله في الكلام وفي القرآن مثل قوله تعالى ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏ وهو الغالب في استعمال مصدر ‏{‏سبحان في الكلام إن لم يكن هو المتعين كما تقتضيه أقوال أيمة اللغة‏.‏ وهذا غير استعمال نحو قوله تعالى ‏{‏فسبِّح بحَمْد ربِّك حِينَ تقُوم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏ وقول الأعشى في داليته‏:‏

وسبّح على حين العشيات والضحى ***

وقوله ‏{‏حين تمْسُون،‏}‏ و‏{‏حين تَصبحون‏}‏، و‏{‏عشياً، وحين تظْهرون‏}‏ ظروف متعلقة بما في إنشاء التنزيه من معنى الفعل، أي يُنْشأ تنزيه الله في هذه الأوقات وهي الأجزاء التي يتجزأ الزمان إليها، والمقصود التأبيد كما تقول‏:‏ سبحان الله دَوْماً‏.‏ وسلك به مسلك الإطناب لأنه مناسب لمقام الثناء‏.‏ وجوّز بعض المفسرين أن يكون ‏{‏سبحان‏}‏ هنا مصدراً واقعاً بدلاً عن فعل أمر بالتسبيح كأنه قيل‏:‏ فسبحوا الله سبحاناً‏.‏ وعليه يخرج ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس‏:‏ هل تجد الصلوات الخمس في القرآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وتلا قوله تعالى ‏{‏فسُبْحان الله حِينَ تمْسُون وحين تُصْبِحون‏}‏ إلى قوله ‏{‏وحِينَ تظهرون‏}‏ فإذا صح ما روي عنه فتأويله‏:‏ أن ‏{‏سبحان‏}‏ أمر بأن يقولوا‏:‏ سبحان الله، وهو كناية عن الصلاة لأن الصلاة تشتمل على قول‏:‏ سبحان ربي الأعلى وبحمده‏.‏

وقوله ‏{‏حين تمسون‏}‏ إلى آخره إشارة إلى أوقات الصلوات وهو يقتضي أن يكون الخطاب موجهاً إلى المؤمنين‏.‏ والمناسبة مع سابقه أنه لما وعدهم بحسن مصيرهم لقّنهم شكر نعمة الله بإقامة الصلاة في أجزاء اليوم والليلة‏.‏ وهذا التفريع يؤذن بأن التسبيح والتحميد الواقعين إنشاءً ثناء على الله كناية عن الشكر عن النعمة لأن التصدي لإنشاء الثناء عقب حصول الإنعام أو الوعد به يدل على أن المادح ما بعثه على المدح في ذلك المقام إلا قصد الجزاء على النعمة بما في طوقه، كما ورد ‏(‏فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له‏)‏‏.‏

وليست الصلوات الخمس وأوقاتها هي المراد من الآية ولكن نسجت على نسج صالح لشموله الصلوات الخمس وأوقاتها وذلك من إعجاز القرآن، لأن الصلاة وإن كان فيها تسبيح ويطلق عليها السُبحة فلا يطلق عليها‏:‏ سبحان الله‏.‏

وأضيف الحين إلى جملتي ‏{‏تمسون وتصبحون‏}‏‏.‏ وقدم فعل الإمساء على فعل الإصباح‏:‏ إما لأن الاستعمال العربي يعتبرون فيه الليالي مبدأ عدد الأيام كثيراً قال تعالى ‏{‏سيروا فيها ليَالِيَ وأياماً آمنين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 18‏]‏، وإما لأن الكلام لما وقع عقب ذكر الحشر من قوله ‏{‏الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه تُرجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 11‏]‏ وذكر قيام الساعة ناسب أن يكون الإمساء وهو آخر اليوم خاطراً في الذهن فقُدم لهم ذكره‏.‏

و ‏{‏عَشيّاً‏}‏ عطف على ‏{‏حينَ تمْسُون‏.‏‏}‏ وقوله ‏{‏وله الحمد في السماوات والأرض‏}‏ جملة معترضة بين الظروف تفيد أن تسبيح المؤمنين لله ليس لمنفعة الله تعالى بل لمنفعة المسبحين لأن الله محمود في السماوات والأرض فهو غني عن حمدنا‏.‏

وتقديم المجرور في ‏{‏ولَهُ الحَمْد‏}‏ لإفادة القصر الادعائي لجنس الحمد على الله تعالى لأن حمده هو الحمد الكامل على نحو قولهم‏:‏ فلان الشجاع، كما تقدم في طالعة سورة الفاتحة‏.‏ ولك أن تجعل التقديم للاهتمام بضمير الجلالة‏.‏

والإمساء‏:‏ حلول المساء‏.‏ والإصباح‏:‏ حلول الصباح‏.‏ وتقدم في قوله ‏{‏فالق الإصباح‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏96‏)‏‏.‏ والإمساء‏:‏ اقتراب غروب الشمس إلى العشاء، والصباح‏:‏ أول النهار‏.‏ والإظهار‏:‏ حلول وقت الظهر وهو نصف النهار‏.‏

وقد استعمل الإفعال الذي همزته للدخول في المكان مثل‏:‏ أنجد، وأتهم، وأيْمَنَ، وأشأم في حلول الأوقات من المساء والصباح والظهر تشبيهاً لذلك الحلول بالكون في المكان، فيكثر أن يقال‏:‏ أصبح وأضحى وأمسى وأعْتَمَ وأشرَق، قال تعالى ‏{‏فأتبعوهم مشرقين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 60‏]‏‏.‏

والعشي‏:‏ ما بعد العصر، وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏ولا تَطْرُدِ الذين يَدْعُون ربهم بالغداة والعشي في سورة الأنعام ‏(‏52‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

هذه الجملة بدل من جملة ‏{‏الله يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ويجوز أيضاً أن تكون موقع العلة لجملة ‏{‏فسبحان الله حين تمسون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 17‏]‏ وما عطف عليها، أي هو مستحق للتسبيح والحمد لتصرفه في المخلوقات بالإيجاد العجيب وبالإحياء بعد الموت‏.‏ واختير من تصرفاته العظيمة تصرف الإحياء والإماتة في الحيوان والنبات لأنه تخلص للغرض المقصود من إثبات البعث رداً للكلام على ما تقدم من قوله ‏{‏الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 11‏]‏‏.‏

فتحصل من ذلك أن الأمر بتسبيحه وحمده معلول بأمرين‏:‏ إيفاء حق شكره المفاد بفاء التفريع في قوله ‏{‏فسبحان الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 17‏]‏، وإيفاء حق التعظيم والإجلال، والمقصود هو إخراج الحي من الميت‏.‏ وأما عطف ‏{‏ويخرج الميت من الحي‏}‏ فللاحتراس من اقتصار قدرته على بعض التصرفات ولإظهار عجيب قدرته أنها تفعل الضدين‏.‏ وفي الآية الطباق‏.‏ وهذا الخطاب للمؤمنين تعريض بالرد على المشركين‏.‏

والإخراج‏:‏ فصل شيء محوي عن حاويه‏.‏ يقال‏:‏ أخرجه من الدار، وأخرج يده من جيبه، فهو هنا مستعمل لإنشاء شيء من شيء‏.‏ والإتيان بصيغة المضارع في ‏{‏يخرج ويحيي‏}‏ لاستحضار الحالة العجيبة مثل قوله ‏{‏الله الذي يرسل الرياح‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏‏.‏ فهذا الإخراج والإحياء آية عظيمة على استحقاقه التعظيم والإفراد بالعبادة إذْ أودع هذا النظام العجيب في الموجودات فجعل في الشيء الذي لا حياة له قوة وخصائص تجعله ينتج الأشياء الحية الثابتة المتصرفة ويجعل في تراب الأرض قُوى تُخرج الزرع والنبات حياً نامياً‏.‏

وإخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة منها‏:‏ إنشاء الأجنة من النطف، وإنشاء الفراخ من البيض؛ وإخراج الميت من الحي يظهر في العكس وقد تقدم في سورة آل عمران‏.‏ وفي الآية إيماء إلى أن الله يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة، وإخراج هند بنت عتبة بن ربيعة من أبيها أحد أيمة الكفر وقد قالت للنبي صلى الله عليه وسلم «ما كان أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خبائك واليوم ما أهل خباء أحب إليّ أن يَعَزُّوا من أهل خبائك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأيضاً ‏"‏ ‏(‏أي ستزيدين حباً لنا بسبب نور الإسلام‏)‏‏.‏ وإخراج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط من أبيها‏.‏ ولما كلمت أم كلثوم بنت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إسلامها وهجرتها إلى المدينة حين جاء أخواها يرومان ردها إلى مكة حسب شروط الهدنة فقالت‏:‏ يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف فأخشى أن يفتنوني في ديني ولا صبر لي، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏يخرج الحيّ من الميت‏}‏، ونزلت آية الامتحان فلم يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما وكانت أول النساء المهاجرات إلى المدينة بعد صلح الحديبية‏.‏

والتشبيه في قوله ‏{‏وكذلك تخرجون‏}‏ راجع إلى ما يصلح له من المذكور قبله وهو ما فيه إنشاء حياة شيء بعد موته بناء على ما قدمناه من أن قوله ‏{‏ويخرج الميت من الحي‏}‏ ليس مقصوداً من الاستدلال ولكنه احتراس وتكملة‏.‏ ويجوز أن يكون التشبيه راجعاً إلى أقرب مذكور وهو إحياء الأرض بعد موتها، أي وكإخراج النبات من الأرض بعد موته فيها يكون إخراجكم من الأرض بعد أن كنتم أمواتاً فيها، كما قال تعالى ‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يُعيدكم فيها ويُخرجكم إخراجاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏ ولا وجه لاقتصار التشبيه على الثاني دون الأول‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الإبداء والإعادة متساويان فليس البعث بعد الموت بأعجب من ابتداء الخلق ولكن المشركين حكَّموا الإلف في موضع تحكيم العقل‏.‏ وقرأ نافع وحفص وحمزة ‏{‏الميّت‏}‏ بتشديد الياء‏.‏ وقرأه الباقون بالتخفيف‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تُخرجون‏}‏ بضم التاء الفوقية‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي بفتحها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

لما كان الاستدلال على البعث متضمناً آيات على تفرده تعالى بالتصرف ودلالته على الوحدانية انتقل من ذلك الاستدلال إلى آيات على ذلك التصرف العظيم غير ما فيه إثبات البعث تثبيتاً للمؤمنين وإعذاراً لمن أشركوا في الإلهية‏.‏ وقد سبقت ست آيات على الوحدانية، وابتدئت بكلمة ‏{‏ومن آياته‏}‏ تنبيهاً على اتحاد غرضها، فهذه هي الآية الأولى ولها شبه بالاستدلال على البعث لأن خلق الناس من تراب وبث الحياة والانتشار فيهم هو ضرب من ضروب إخراج الحي من الميت، فلذلك كانت هي الأولى في الذكر لمناسبتها لما قبلها فجعلت تخلصاً من دلائل البعث إلى دلائل عظيم القدرة‏.‏ وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الإنسان وتقويم بشريته‏.‏

وتقدم كيف كان الخلق من تراب عند قوله تعالى ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين‏}‏ في سورة المؤمنين ‏(‏12، 13‏)‏‏.‏

فضمير النصب في خَلَقَكم‏}‏ عائد إلى جميع الناس وهذا في معنى قوله تعالى في سورة الحج ‏(‏5‏)‏ ‏{‏فإنّا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة‏}‏ الآية‏.‏

وهذا استدلال للناس بأنفسهم لأنهم أشعرُ بها مما سواها، والناس يعلمون أن النطف أصل الخلقة، وهم إذا تأملوا علموا أن النطفة تتكون من الغذاء، وأن الغذاء يتكون من نبات الأرض، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فعلموا أنهم مخلوقون من تراب، فبذلك استقام جعل التكوين من التراب آية للناس أي علامة على عظيم القدرة مع كونه أمراً خفياً‏.‏ على أنه يمكن أن يكون الاستدلال مبنياً على ما هو شائع بين البشر أن أصل الإنسان تراب حسبما أنبأت به الأديان كلها‏.‏ وبهذا التأويل يصح أيضاً أن يكون معنى ‏{‏خلقكم من تراب‏}‏ خلق أصلكم وهو آدم، وأول الوجوه أظهرها‏.‏ فالتراب موات لا حياة فيه وطبعه مناففٍ لطبع الحياة لأن التراب بارد يابس وذلك طبع الموت، والحياةُ تقتضي حرارة ورطوبة فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي المدرك‏.‏ وقد أشير إلى الحياة والإدراك بقوله ‏{‏إذا أنتم بشر‏}‏، وإلى التصرف والحركة بقوله ‏{‏تنتشرون‏}‏، ولما كان تمام البشرية ينشأ عن تطور التراب إلى نبات ثم إلى نطفة ثم إلى أطوار التخلق في أزمنة متتالية عطفت الجملة بحرف المهلة الدال على تراخي الزمن مع تراخي الرتبة الذي هو الأصل في عطف الجمل بحرف ‏{‏ثم‏}‏‏.‏

وصدرت الجملة بحرف المفاجأة لأن الكون بشراً يظهر للناس فجأة بوضع الأجنة أو خروج الفراخ من البيض، وما بين ذلك من الأطوار التي اقتضاها حرف المهلة هي أطوار خفية غير مشاهدة؛ فكان الجمع بين حرف المهلة وحرف المفاجأة تنبيهاً على ذلك التطور العجيب‏.‏ وحصل من المقارنة بين حرف المهلة وحرف المفاجأة شبه الطباق وإن كان مرجع كل من الحرفين غير مرجع الآخر‏.‏

والانتشار‏:‏ الظهور على الأرض والتباعد بين الناس في الأعمال قال تعالى ‏{‏فانتشروا في الأرض‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

هذه آية ثانية فيها عظة وتذكير بنظام الناس العام وهو نظام الازدواج وكينونة العائلة وأساس التناسل، وهو نظام عجيب جعله الله مرتكزاً في الجبلة لا يشذ عنه إلا الشذاذ‏.‏

وهي آية تنطوي على عدة آيات منها‏:‏ أن جُعل للإنسان ناموس التناسل، وأن جُعل تناسله بالتزاوج ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه ولم يجعلها من صنف آخر لأن التأنس لا يحصل بصنف مخالف، وأن جعل في ذلك التزاوج أنساً بين الزوجين ولم يجعله تزاوجاً عنيفاً أو مهلكاً كتزاوج الضفادع، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة فالزوجان يكونان من قبل التزاوج متجاهلين فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة، ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل ويتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آياتتٍ عدة في قوله ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون‏.‏‏}‏ وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الصنفين من الإنسان‏:‏ صنف الذكر، وصنف الأنثى، وإيداع نظام الإقبال بينهما في جبلتهما‏.‏ وذلك من الذاتيات النسبية بين الصنفين‏.‏ وقد أدمج في الاعتبار بهذه الآية امتنان بنعمة في هذه الآية أشار إليها قوله ‏{‏لكم‏}‏ أي لأجل نفعكم‏.‏

و ‏{‏لقوم يتفكرون‏}‏ متعلق ب ‏{‏آيات‏}‏ لما فيه من معنى الدلالة‏.‏ وجعلت الآيات لقوم يتفكرون لأن التفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يجلي كنهها ويزيد الناظر بصارة بمنافع أخرى في ضمنها‏.‏

والذين يتفكرون‏:‏ المؤمنون وأهل الرأي من المشركين الذين يؤمنون بعد نزول هذه الآية‏.‏ والخطاب في قوله ‏{‏أن خَلَق لكم‏}‏ لجميع نوع الإنسان الذكور والإناث‏.‏

والزوج‏:‏ هو الذي به يصير للواحد ثاننٍ فيطلق على امرأة الرجل ورجل المرأة فجعل الله لكل فرد زوجه‏.‏

ومعنى ‏{‏من أنفسكم‏}‏ من نوعكم، فجميع الأزواج من نوع الناس، وأما قول تأبط شراً‏:‏

وتزوجت في الشبيبة غُولاً *** بغزال وصدقتي زِقّ خمر

فمن تكاذيبهم، وكذلك ما يزعمه المشعوذون من التزوج بالجنِّيات وما يزعمه أهل الخرافات والروايات من وجود بنات في البحر وأنها قد يتزوج بعض الإنس ببعضها‏.‏

والسكون‏:‏ هنا مستعار للتأنس وفرح النفس لأن في ذلك زوال اضطراب الوحشة والكمد بالسكون الذي هو زوال اضطراب الجسم كما قالوا‏:‏ اطمأن إلى كذا وانقطع إلى كذا‏.‏

وضمن ‏{‏لِتَسْكِنوا‏}‏ معنى لتميلوا فعدي بحرف ‏(‏إلى‏)‏ وإن كان حقه أن يعلق ب ‏(‏عند‏)‏ ونحوها من الظروف‏.‏

والمودة‏:‏ المحبة، والرحمة‏:‏ صفة تبعث على حسن المعاملة‏.‏

وإنما جعل في ذلك آيات كثيرة باعتبار اشتمال ذلك الخلق على دقائق كثيرة متولد بعضها عن بعض يظهرها التأمل والتدبر بحيث يتجمع منها آيات كثيرة‏.‏

واللام في قوله ‏{‏لقوم يتفكرون‏}‏ معناه شبه التمليك وهو معنى أثبته صاحب «مغني اللبيب» ويظهر أنه واسطة بين معنى التمليك ومعنى التعليل‏.‏ ومثَّله في «المغني» بقوله تعالى ‏{‏جعل لكم من أنفسكم أزواجاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 72‏]‏ وذكر في المعنى العشرين من معاني اللام أن ابن مالك في «كافيته» سماه لام التعدية ولعله يريد تعدية خاصة، ومثله بقوله تعالى ‏{‏فهبْ لي من لدنك وليّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

هذه الآية الثالثة وهي آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكانها؛ فخلقُ السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقاربة المتلازمة كالليل والنهار والفصول، والمتضادة كالعُلّو والانخفاض‏.‏

وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات، وخُص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نَجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض، فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض، واختلاف مسامته أشعة الشمس لها؛ فهي من آثار خلق السماوات والأرض‏.‏ ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيد له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض‏.‏ وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحواللٍ عرضية في الإنسان ملازمة له فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة ثم النسبية، فلذلك ذكرت هذه الآية عقب الآيتين السابقتين حسب الترتيب السابق‏.‏ وقد ظهر وجه المقارنة بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف ألسن البشر وألوانهم، وتقدم في سورة آل عمران ‏(‏190‏)‏ قوله ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏ والألسنة‏:‏ جمع لسان، وهو يطلق على اللغة كما في قوله تعالى ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ وقوله ‏{‏لسان الذي يُلْحِدون إليه أعجمي‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 103‏]‏‏.‏

واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كوّنه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنويع التصرف في وضع اللغات، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة‏.‏ فلا شك أن اللغة كانت واحدة للبشر حين كانوا في مكان واحد، وما اختلفت اللغات إلا بانتشار قبائل البشر في المواطن المتباعدة، وتطرَّق التغير إلى لغاتهم تطرقاً تدريجياً؛ على أن توسُّع اللغات بتوسع الحاجة إلى التعبير عن أشياء لم يكن للتعبير عنها حاجة قد أوجب اختلافاً في وضع الأسماء لها فاختلفت اللغات بذلك في جوهرها كما اختلفت فيما كان متفقاً عليه بينها باختلاف لهجات النطق، واختلاف التصرف، فكان لاختلاف الألسنة موجبان‏.‏ فمحل العبرة هو اختلاف اللغات مع اتحاد أصل النوع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏ ولما في ذلك الاختلاف من الأسرار المقتضية إياه‏.‏ ووقع في الإصحاح الحادي عشر من «سفر التكوين» ما يوهم ظاهره أن اختلاف الألسن حصل دفعة واحدة بعد الطوفان في أرض بابل وأن البشر تفرقوا بعد ذلك‏.‏

والظاهر أنه وقع في العبارة تقديم وتأخير وأن التفرق وقع قبل تبلبل الألسن‏.‏ وقد علل في ذلك «الإصحاح» بما ينزه الله عن مدلوله‏.‏

وقيل‏:‏ أراد باختلاف الألسنة اختلاف الأصوات بحيث تتمايز أصوات الناس المتكلمين بلغة واحدة فنعرف صاحب الصوت وإن كان غير مرئي‏.‏ وأما اختلاف ألوان البشر فهو آية أيضاً لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم، وله لون واحد لا محالة، ولعله البياض المشوب بحمرة، فلما تعدد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة، ومنها التوالد من أبوين مختلفي اللون مثل المتولد من أم سوداء وأب أبيض، ومنها العلل والأمراض التي تؤثر تلويناً في الجلد، ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلاً على اختلاف النوع بل هو نواع واحد، فللبشر ألوان كثيرة أصلاها البياض والسواد، وقد أشار إلى هذا أبو علي ابن سينا في «أرجوزته» في الطب بقوله‏:‏

بالنزج حرّ غيَّر الأجساد *** حتى كسا بياضها سَوادا

والصقلبُ اكتسبت البياضا *** حتى غدتْ جلودها بِضاضا

وكان أصل اللون البياض لأنه غير محتاج إلى علة ولأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون‏.‏ ومن البياض والسواد انشقت ألوان قبائل البشر فجاء منها اللون الأصفر واللون الأسمر واللون الأحمر‏.‏ ومن العلماء وهو كُوقْيَيْ جعل أصول ألوان البشر ثلاثة‏:‏ الأبيض والأسود والأصفر، وهو لون أهل الصين‏.‏ ومنهم من زاد الأحمر وهو لون سكان قارة أمريكا الأصليين المدعوين هنود أمريكا‏.‏ واعلم أن من مجموع اختلاف اللغات واختلاف الألوان تمايزت الأجذام البشرية واتحدت مختلطات أنسابها‏.‏ وقد قسموا أجذام البشر الآن إلى ثلاثة أجذام أصلية وهي الجذم القوقاسي الأبيض، والجذم المغولي الأصفر، والجذم الحبشي الأسود، وفرعوها إلى ثمانية وهي الأبيض والأسود والحبشي والأحمر والأصفر والسَّامي والهندي والمَلاَيي نسبة إلى بلاد المَلاَيُو‏.‏

وجعل ذلك آيات في قوله ‏{‏إن في ذلك لآيات للعالمين‏}‏ لما علمت من تفاصيل دلائله وعلله، أي آيات لجميع الناس، وهو نظير قوله آنفاً ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 21‏]‏‏.‏

واللام في قوله ‏{‏للعالمين‏}‏ نظير ما تقدم في الآية قبلها‏.‏ وجعل ذلك آيات للعالمين لأنه مقرر معلوم لديهم يمكنهم الشعور بآياته بمجرد التفات الذهن دون إمعان نظر‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏للعالمين‏}‏ بفتح اللام‏.‏ وقرأه حفص بكسر اللام أي لأولي العلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

هذه آية رابعة وهي كائنة في أعراض من أعراض الناس لا يخلو عنها أحد من أفرادهم، إلا أنها أعراض مفارقة غير ملازمة فكانت دون الأعراض التي أقيمت عليها الآية الثالثة ولذلك ذكرت هذه الآية بعدها‏.‏

وحالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان إذ جعل الله له في نظام أعصاب دماغه قانوناً يستردّ به قوة مجموعه العصَبي بعد أن يعتريه فشل الإعياء من إعمال عقله وجسده فيعتريه شبه موت يخدر إدراكه ولا يعطل حركات أعضائه الرئيسية ولكنه يثبطها حتى يبلغ من الزمن مقداراً كافياً لاسترجاع قوته فيفيق من نومته وتعود إليه حياته كاملة، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏255‏)‏‏.‏ والمنَام مصدر ميمي للنوم أو هو اسم مصدر‏.‏

وقوله بالليل والنهار‏}‏ متعلق ب ‏{‏منامكم‏.‏‏}‏ والباء للظرفية بمعنى ‏(‏في‏)‏ فالناس ينامون بالليل ومنهم من ينام بالنهار في القائلة وبخاصة أهل الأعمال المضنية إذا استراحوا منها في منتصف النهار خصوصاً في البلاد الحارة أو في فصل الحر‏.‏

والابتغاء من فضل الله‏:‏ طلب الرزق بالعمل لأن فضل الله الرزق، وجعل هذا كناية عن الهبوب إلى العمل لأن الابتغاء يستلزم الهبوب من النوم، وذلك آية أخرى لأنه نشاط القوة بعد أن خارت وفشلت‏.‏ ولكون ابتغاء الرزق من خصائص النهار أطلق هنا فلم يقيد بالليل والنهار‏.‏ ولك أن تجعل عدم تقييده بمثل ما قيد به ‏{‏منامكم‏}‏ للاستغناء بدلالة القيد الذي قبله بتقدير‏:‏ وابتغاؤكم من فضله فيهما، وقد تكلف صاحب «الكشاف» فجعل الكلام من قبيل اللف والنشر؛ على أن اللف وقع فيه تفريق، ووجَّهه محشيِّه القزويني بأن التقديم للاهتمام بآية الليل والنهار‏.‏

وقد جعلت دلالات المنام والابتغاء من فضل الله ‏{‏لقوم يسمعون لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذين حالتان متعاورتان على الناس قد اعتادوهما فقلَّ من يتدبر في دلالتهما على دقيق صنع الله تعالى؛ فمعظم الناس في حاجة إلى من يوقفهم على هذه الدلالة ويرشدهم إليها‏.‏ وثانيهما‏:‏ أن في ما يسمعه الناس من أحوال النوم ما هو أشد دلالة على عظيم صنع الله تعالى مما يشعر به صاحبُ النوم من أحوال نومه، لأن النائم لا يعرف من نومه إلا الاستعداد له وإلا أنه حين يهُبّ من نومه يعلم أنه كان نائماً؛ فأما حالة النائم في حين نومه ومقدار تنبهه لمن يوقظه، وشعوره بالأصوات التي تقع بقربه، والأضواء التي تنتشر على بصره فتنبهه أو لا تنبهه، كل ذلك لا يتلقاه النائم إلا بطريق الخبر من الذين يكونون أيقاظاً في وقت نومه‏.‏ فطريق العلم بتفاصيل أحوال النائمين واختلافها السمع، وقد يشاهد المرء حال نوم غيره إلا أن عبرته بنومه الخاص به أشد، فطريق السمع هو أعم الطرق لمعرفة تفاصيل أحوال النوم، فلذلك قيل لقوم يسمعون‏.‏‏}‏ وأيضاً لأن النوم يحول دون الشعور بالمسموعات بادئ ذي بدء قبل أن يحول دون الشعور بالمبصرات‏.‏

وأجريت صفة ‏{‏يسمعون‏}‏ على ‏{‏قوم‏}‏ للإيماء إلى أن السمع متمكّن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏ ووجه جعل ذلك آيات لما ينطوي عليه من تعدد الدلالات بتعدد المستدلين وتولد دقائق تلك الآية بعضها عن بعض كما تقدم آنفاً‏.‏

ومعنى اللام في قوله ‏{‏لقوم يسمعون‏}‏ كما تقدم في معناه عند قوله ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 21‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

تلك آية خامسة وهي متعلقة بالإنسان وليست متصلة به، فإن البرق آية من آيات صنع الله وهو من خلْق القوى الكهربائية النورانية في الأسحبة وجعلها آثاراً مشاهدة، وكم من قوى أمثالها منبثة في العوالم العلوية لا تُشاهد آثارُها‏.‏ ومن الحكم الإلهية في كون البرق مرئياً أن ذلك يثير في النفوس خوفاً من أن يكون الله سلطه عقاباً وطمعاً في أن يكون أراد به خيراً للناس فيطمعون في نزول المطر، ولذلك أعقبه بقوله ‏{‏وينزِّل من السماء ماء‏}‏ فإن نزول المطر مما يخطر بالبال عند ذكر البرق‏.‏

وقوله ‏{‏من آياته‏}‏ جار ومجرور يحتاج إلى تقدير كوننٍ إن كان ظرفاً مستقراً، أو إلى متعلَّق إن كان ظرفاً لغواً‏.‏ وموقع هذا الجار والمجرور في هذه الآية وارد على مثل مواقع أمثاله في الآيات السابقة واللاحقة الشبيهة بها، وذلك مما يدعو إلى اعتبار ما يذكر بعد الجار والمجرور في معنى مبتدأ مخبَر عنه بالجار والمجرور المقدم عليه حملاً على نظائره، فيكون المعنى‏:‏ ومن ءاياته إراءته إياكم البَرق الخ‏.‏ فلذلك قال أيمة النحو‏:‏ يجوز هنا جعل الفعل المضارع بمعنى المصدر من غير وجود ‏(‏أن‏)‏ ولا تقديرها، أي من غير نصب المضارع بتقدير ‏(‏أن‏)‏ محذوفة، وجعلوا منه قول عُروة بن الوَرْد‏:‏

وقالوا ما تشاء فقلت ألهو *** إلى الإصباح آثر ذي آثار

وقول طرفة‏:‏

ألا أيهذا الزاجري احضُر الوغى ***

وجعلوا منه قوله تعالى ‏{‏قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏ برفع ‏{‏أعبد‏}‏ في مشهور القراءات، وقولهم في المثل‏:‏ تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «كلَّ يوم تطلُع فيه الشمس تعدِل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل عليها متاعه صدقة» وقوله فيه‏:‏ «وتميط الأذى عن الطريق صدقة» رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة‏.‏

ومن بديع الاستعمال تفنن هذه الآيات في التعبير عن معاني المصدر بأنواع صيغه الواردة في الاستعمال، من تعبير بصيغة صريح المصدر تارة كقوله ‏{‏ومن آياته خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 22‏]‏ وقوله ‏{‏وابتغاؤكم من فضله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 23‏]‏، وبالمصدر الذي ينسبك من اقتران ‏{‏أن‏}‏ المصدرية بالفعل الماضي ‏{‏أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 21‏]‏ واقترانها بالفعل المضارع ‏{‏ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏، وباسم المصدر تارة ‏{‏ومن ءاياته منامكم بالليل والنهار‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 23‏]‏ ومرة بالفعل المجرد المؤوّل بالمصدر ‏{‏ومن آياته يريكم البرق‏.‏

‏}‏ ولك أن تجعل المجرور متعلقاً ب ‏{‏يريكم‏}‏ وتكون ‏{‏من‏}‏ ابتدائية في موضع الحال من البرق، وتكون جملة ‏{‏يريكم البرق‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ومن آياته منامكم بالليل والنهار‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 23‏]‏ الخ‏.‏ فيكون تغيير الأسلوب لأن مناط هذه الآية هو تقرير الناس بها إذ هي غير متصلة بذواتهم فليس حظهم منها سوى مشاهدتها والإقرار بأنها آية بينة‏.‏

فهذا التقرير كالذي في قوله تعالى ‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏، وليتأتى عطف ‏{‏وينزل من السماء ماء‏}‏ عليه لأنه تكملة لهذه الآية‏.‏

وقوله ‏{‏خوفاً وطمعاً‏}‏ مفعول لأجله معطوف عليه‏.‏ والمراد‏:‏ خوفاً تخافونه وطمعاً تطمعونه‏.‏ فالمصدران مؤولان بمعنى الإرادة، أي إرادة أن تخافوا خوفاً وتطمعوا‏.‏ وقد تقدم الكلام على البرق في قوله ‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏12‏)‏‏.‏ وتقدم هنالك أن ‏{‏خوفاً‏}‏ مفعول له و‏{‏طمعاً‏}‏ كذلك وتوجيه ذلك‏.‏

وجعلت هذه الآية آيات لانطوائها على دقائق عظيمة في خلق القوى التي هي أسباب البرق ونزول المطر وخروج النبات من الأرض بعد جفافها وموتها‏.‏ ونيط الانتفاع بهذه الآيات بأصحاب صفة العقل لأن العقل المستقيم غير المشوب بعاهة العناد والمكابرة كاففٍ في فهم ما في تلك المذكورات من الدلائل والحكم على نحو ما قرر في نظائره آنفاً‏.‏

وإجراء ‏{‏يعقلون‏}‏ على لفظ ‏{‏قوم‏}‏ للإيماء إلى ما تقدم ذكره آنفاً في مثله‏.‏ ومعنى اللام في قوله ‏{‏لقوم يعقلون‏}‏ مثل معنى أختها في قوله ‏{‏لقوم يتفكرون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 21‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

ختمت الآيات بهذه الآية السادسة وهي التي دلت على عظيم القدرة على حفظ نظام المخلوقات العظيمة بعد خلقها؛ فخلقُ السماوات والأرض آيةٌ مستقلة تقدمت، وبقاء نظامهما على ممر القرون آية أخرى‏.‏ وموقع العبرة من هاته الآية هو أولها وهو أن تقوم السماء والأرض هذا القيام المتقن بأمر الله دون غيره‏.‏

فمعنى القيام هنا‏:‏ البقاء الكامل الذي يشبه بقاء القائم غير المضطجع وغير القاعد من قولهم‏:‏ قامت السوق، إذا عظم فيها البيع والشراء‏.‏ وهذا هو المعبر عنه في قوله تعالى ‏{‏إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 41‏]‏ وقوله ‏{‏ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 65‏]‏‏.‏ والأمر المضاف إلى الله هو أمره التكويني وهو مجموع ما وضعه الله من نظام العالم العلوي والسفلي، ذلك النظامَ الحارس لهما من تطرق الاختلال بإيجاد ذلك النظام‏.‏ و‏{‏بأمره‏}‏ متعلق بفعل ‏{‏تقوم،‏}‏ والباء للسببية‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ عاطفة الجملة على الجملة‏.‏ والمقصود من الجملة المعطوفة الاحتراس عما قد يتوهم من قوله ‏{‏أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏ من أبدية وجود السماوات والأرض، فأفادت الجملة أن هذا النظام الأرضي يعتوره الاختلال إذا أراد الله انقضاء العالم الأرضي وإحضار الخلق إلى الحشر تسجيلاً على المشركين بإثبات البعث‏.‏ فمضمون جملة ‏{‏إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏}‏ ليس من تمام هذه الآية السادسة ولكنه تكملة وإدماج موجه إلى منكري البعث‏.‏

وفي متعلق المجرور في قوله ‏{‏مِنَ الأرْض‏}‏ اضطراب؛ فالذي ذهب إليه صاحب «الكشاف» أنه متعلق ب ‏{‏دعاكم‏}‏ لأن ‏{‏دعاكم‏}‏ لما اشتمل على فاعل ومفعول فالمتعلق بالفعل يجوز أن يكون من شؤون الفاعل ويجوز أن يكون من شؤون المفعول على حسب القرينة، كما تقول‏:‏ دعوت فلاناً من أعلى الجبل فنزل إليّ، أي دعوته وهو في أعلى الجبل‏.‏ وهذا الاستعمال خلاف الغالب ولكن دلت عليه القرينة مع التفصي من أن يكون المجرور متعلقاً ب ‏{‏تخرجون‏}‏ لأن ما بعد حرف المفاجأة لا يعمل فيما قبلها، على أن في هذا المنع نظراً‏.‏ ولا يجوز تعليقه ب ‏{‏دعوة‏}‏ لعدم اشتمال المصدر على فاعل ومفعول، وهو وجيه وكفاك بذوق قائله‏.‏ وأقول‏:‏ قريب منه قوله تعالى ‏{‏أولئك يُنادَوْن من مكان بعيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ لابتداء المكان، والمجرور ظرف لغو‏.‏ ويجوز أن يكون المجرور حالاً من ضمير النصب في ‏{‏دَعَاكم‏}‏ فهو ظرف مستقر‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏من الأرض‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏تخرجون‏}‏ قدم عليه‏.‏ وهذا ذكر في «مغني اللبيب» أنه حكاه عنهم أبو حاتم في كتاب «الوقف»، وهذا أحسن وأبعد عن التكلف، وعليه فتقديم المجرور للاهتمام تعريضاً بخطئهم إذ أحالوا أن يكون لهم خروج من الأرض عن بعد صيرورتهم فيها في قولهم المحكي عنهم بقوله تعالى ‏{‏وقالوا أإذا ضَلَلْنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏ وقولهم

‏{‏أإذا كنّا تُراباً وءاباؤنا أئنّا لمخرجون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وأما قضية تقديم المعمول على ‏{‏إذا‏}‏ الفجائية فإذا سلم عدم جوازه فإن التوسع في المجرور والمظروف من حديث البحر، فمن العجب كيف سدّ باب التوسع فيه صاحب «مغني اللبيب» في الجهة الثانية من الباب الخامس‏.‏ وجيء بحرف المفاجأة في قوله ‏{‏إذا أنتم تخرجون‏}‏ لإفادة سرعة خروجهم إلى الحشر كقوله ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13، 14‏]‏ و‏{‏إذا‏}‏ الفجائية تقتضي أن يكون ما بعدها مبتدأ‏.‏ وجيء بخبر المبتدأ جملة فعلية لإفادة التقوّي الحاصل من تحمل الفعل ضمير المبتدأ فكأنه أعيد ذكره كما أشار إليه صاحب «المفتاح»‏.‏ وجيء بالمضارع لاستحضار الصورة العجيبة في ذلك الخروج كقوله ‏{‏فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 51‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

أتبع ذكر إقامة الله تعالى السماوات والأرض بالتذكير بأن كل العقلاء في السماوات والأرض عبيد لله تعالى فيكون من مكملات ما تضمنته جملة ‏{‏ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏ فعطفت عليها هذه الجملة زيادة لبيان معنى إقامته السماءَ والأرض‏.‏

فاللام في قوله ‏{‏وله من في السموات والأرض‏}‏ لام الملك، واللام في قوله ‏{‏كل له قانتون‏}‏ لام التقوية، أي تقوية تعدية العامل إلى معموله لضعف العامل بكونه فرعاً في العَمل، وبتأخيره عن معموله‏.‏ وعليه تكون ‏{‏مَنْ‏}‏ صادقة على العقلاء كما هو الغالب في استعمالها‏.‏ وظاهر معنى القنوت امتثال الأمر، فيجوز أن يكون المعنى‏:‏ أنهم منقادون لأمره‏.‏ وإذ قد كان في العقلاء عصاة كثيرون تعيَّن تأويل القنوت باستعماله في الامتثال لأمر التكوين، أو في الشهادة لله بالوحدانية بدلالة الحال، وهذا هو المقصود هنا لأن هذا الكلام أورد بعد ذكر الآيات الستّ إيرادَ الفذلكة بإثبات الوحدانية فلا يحمل قنوتهم على امتثالهم لما يأمرهم الله به من أمر التكليف مباشرة أو بواسطة لأن المخلوقات متفاوتون في الامتثال للتكليف؛ فالشيطان أمره الله مباشرة بالسجود لآدم فلم يمتثل، وآدم أمره الله مباشرة أن لا يأكل من الشجرة فأكل منها؛ إلا أن ذلك قبل ابتداء التكليف‏.‏

والمخلوقات السماوية ممتثلون لأمره ساعون في مرضاته قال تعالى ‏{‏وهم بأمره يعملون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وأما المخلوقات الأرضية العقلاء فهم مخلوقون للطاعة قال تعالى ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، فزيغ الزائغين عن طاعة الله تعالى انحراف منهم عن الفطرة التي فطروا عليها، وهم في انحرافهم متفاوتون؛ فالضالّون الذين أشركوا بالله فجعلوا له أنداداً، والعصاة الذين لم يخرجوا عن توحيده، ولكنهم ربما خالفوا بعض أوامره قليلاً أو كثيراً، هم في ذلك آخذون بجانب من الإباق متفاوتون فيه‏.‏ فجملة ‏{‏وله من في السموات والأرض كل له قانتون‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون جملة ‏{‏ولَه مَنْ فِي السَّمَاوات والأرض كُل لهُ قانِتُون‏}‏ تكملة لجملة ‏{‏ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏ على معنى‏:‏ وله يومئذ من في السموات والأرض كل له قانتون، فالقنوت بمعنى الامتثال الواقع في ذلك اليوم وهو امتثال الخضوع لأن امتثال التكليف قد انقضى بانقضاء الدنيا، أي لا يسعهم إلا الخضوع فيها يأمر الله به من شأنهم ‏{‏يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 24‏]‏، فتكون الجملة معطوفة على جملة ‏{‏ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏‏.‏ والقنوت تقدم في قوله ‏{‏قانتاً لله حنيفاً‏}‏ في سورة النحل ‏(‏120‏)‏‏.‏